بداية أرجو أن تلائم سطوري المتواضعة منتدى التاريخ والتراث العربي ، لمشرفته ورواده مني كل الاحترام والتقدير ..
دار في خلدي لوهلة سؤال العنوان أو العنوان السؤال " من يصنع التاريخ " ؟
رجل مسن وجه هذا السؤال لأحد الشباب على مدخل قلعة تاريخية شهيرة في المملكة ..
من يصنع التاريخ ؟
أجاب الشاب : الرجال يصنعون التاريخ
فبادره العجوز المسن : وأين هم ؟
القصة الماضية وغيرها ، جعلتني أحدق في السؤال مليا و أقلبه كثيرا ..
نعم فتاريخنا العربي زاهر زاخر في مجمل صفحاته ، لكنه في المقابل قاتم غابر في بعضها الآخر ..
وأنا أتساءل مع نفسي هنا ، كم هي ياترى كمية التاريخ الذي سطرته لنا الأجيال السابقة ؟
هل كانو يدونون كل شيء ، أم كانوا انتقائيين ، يسجلون من أحداث التاريخ ما يشاؤون من عطر التاريخ وحسنه ويحجبون عنا ما يشاؤون من نتنه وقبيحه ؟
ماهو مضمون ذلك التاريخ الذي وصل إلينا ؟ والذي نقرأه اليوم في مجلداتنا التاريخية الدسمة ، ترى هل كان تاريخا شاملا أم أنه مجرد تاريخ مبتور حد التشويه ؟
انزلوا أيها القراء الكرام إلى مستودعات منازلكم وأخرجوا كتب مناهج التاريخ العتيقة التي درسناها عبر مسيرتنا التعليمية في الابتدائية والمتوسطة والثانوية وحتى الجامعة ، وإن لم تجدو فاستعينوا بمنهج التاريخ لأحد إخوتكم الصغار ..
قلبوا في المنهج وستجدونه منهجا تاريخيا يركز فقط على قضية ، بطل ولد في التاريخ الفلاني ومات في التاريخ العلاني ، ومدينة سقطت وأخرى فتحت ، وجيش انتصر وآخر هزم !!
للأسف فإن تاريخنا يعج بالأرقام المجردة هجريا وميلاديا ،، وبالأحداث العامة والوقائع الحربية والشدائد العسكرية والمحن الاستراتيجية ، إنه تاريخ أشخاص وأماكن ، لا تاريخ أمة و حقائق !!
لا أدري لماذا كانوا يحشون عقولنا في الصغر بكل ذلك الكم من الأرقام التي أتحدى لو تجاوز عدد المحفوظ منها في ذاكرتنا اليوم عدد أصابع يدي هاتين ( لدي بالمناسبة عشر أصابع فقط !! )
ولا أدري ماحجم الاستفادة التي استفدناها من اجترار سير أبطالنا دون التمعن في الظروف المحيطة بتلك السير ، مالفائدة من معرفة تاريخ بطولة بطل الأبطال إن لم نكن نعرف حقيقة البيئة الاجتماعية التي خرج منها ذلك البطل .. والأحوال السائدة التي جعلت منه بالأساس بطلا .. وهذا هو ما أردت الوصول إليه ..
كانت مناهجنا التاريخية الرسمية وغير الرسمية ، تختزل الحراك الاجتماعي السائد وتركز فقط على المناقب والرموز ، تركز على من يعتلي العرش ومن يهبط منه ، وتركز على الولد أكان أنجب من أبيه سفكا للدم أم أبلد منه أم كلاهما في السفك سواء !! باستثناء بعض النماذج المشرفة التي لا يحق لي أو لغيري المساس بها إحقاقا للحق وتحريا للمصداقية ..
إنني أجد المنهج التاريخي الحقيقي يستوجب أن يكون أمينا من ناحيتين :
أولاهما أن يكتب باليمين الإيجابي ولا يغفل السلبي حتى لو كتبه باليسار ..
وثانيهما أن يلتقط صورة عشوائية للأمة في حقبة معينة .. صورة تضم في بروازها جميع النواحي ، الفكرية والاقتصادية والثقافية والإنسانية .... إلخ
حتى لا أطيل ، فنحن اليوم كجيل كامل ، أمام مسؤولية تاريخية كبيرة ، حذار أن نتملص منها أو أن يستلبها منا غيرنا ، نحن اليوم ندون ونسجل تاريخا سوف تقرؤه أجيال قادمة ، وحري بنا أن نكون شموليين في تدويننا وتسجيلنا .. لا انتقائيين كمن سبقنا ..
في غزة اليوم - على سبيل المثال لا الحصر - و رغم كل ما تعانيه هذه البقعة التاريخية من مآسي وصراعات داخلية وغزو وحشي وعدوان بربري ، لا تخلو غزة ولا تغيب عن الغزاويين قصص رائعة للنجاح ، لكننا للأسف نركز فقط على حسابات الربح والخسارة والـ مع و الضد ..
هناك تاريخ ناصع يجري في غزة اليوم وفي العراق وفي بقع جغرافية عربية أخرى ، هناك نماذج تستحق أن يحفظها التاريخ تماما كما ستُحفظ زيارات الوفود واجتماعات اللجان ومؤتمرات القمم .. وإن لم نسارع في تدوين هذا التاريخ الناصع فمن يا ترى سيقوم بالمهمة نيابة عنا ؟
هناك آباء ينحتون في صخر الأرض كي يطعموا أولادهم ، وهناك أمهات تعرق وتدمع من أجل تعليم أبنائهن ، وهناك شبيية وصبية يحرقون الشموع كي يفكو الحرف و يفهمو الرمز في وسط الظلام ، وهناك أطباء يشترون الحياة بغلاء كي لا يموت بين أيديهم مريض ، وهناك رجال ينزعون مايقيهم البرد كي يوقفوا نزف جريح ..
هناك .. وهناك .. لدي رصيد من القصص وأكاد أجزم أن لديكم أرصدة
الأجيال القادمة من وجهة نظري المتواضعة ، لا تنتظر منا أرقاما هجرية وميلادية ، لأنها ببساطة يمكن أن تحصل على الأرقام بكبسة زر تعيدها إلى زمننا هذا حتى بدون آلة زمن ..
الأجيال القادمة تنتظر منا تغلغلا في قصص التحدي وغوصا في أعماق الأزمات والنكسات المتلاحقة التي عشناها ونعيشها، والتي تؤكد أننا بالمجمل " أبطال " إذ تفوقنا على أنفسنا وتعايشنا مع مراراتنا ، وتشافينا من لدغات العقارب المسمومة التي لم تزل تتربص بنا ..
ها هو عقلي ككل مرة يفقد قدرته على وضع نهاية مناسبة للمشاركة ..فالعذر منكم
ربما لدى بعضكم نهايات أنسب فلا تبخلو على أخيكم بها ..
من يصنع التاريخ ؟
ليس الرجال وحدهم يصنعون التاريخ .. ولم يكن التاريخ يوما حكرا على أحد .